لاشكّ بأنّنا سنبقى مدينون بالكثير الكثير لثورة شباب تونس ليس لأنّها أزاحت عن صدورنا حكما كان بذلك الفساد والإنحطاط فحسب ولكن لأنّها سمحت لنا بالكشف عن أوجه مظلمة من الحكم في تونس ليس من ثلاث وعشرين سنة بل وحتى من قبل الإستقلال فكما هو معلوم بأنّه وإن تغيّر النظام في سبعة نوفمبر فإنّ الحريات قد تمّ خنقها ولم يعد يُمرّر من الآراء والمواقف والقراءات حتى للحوادث التاريخية إلاّ ما كان يُناسب جهاز الحكم وآلاته ويخدم المتلحفين بعباءته ، حتى فيما كان يخص الفترة الّتي سبقته سواء في عهد الإستعمار أو العهد البورقيبي ، وما نقدّمه اليوم واحدة من تلك الحقائق الّتي سعى نظام بن علي إلى إخفاءها وتهديد أصحابها إن تمّ الكشف عنها، وتتعلّق بحقيقة صحيفة الحرية الّتي أسّسها المناضل والمرحوم الطاهر السماوي سنة 1948 وتمتّ مصادرتها وإيقاف صاحبها في كل عهد وإن إختلفت الأسباب، وقد إتصل بنا إبن هذا المنضال بما لديه من حقائق تاريخية ويطلب ردّ الإعتبار لوالده وصحيفته وإعادة ما سلب منهم بالقوة وتحت مرأى وسمع التاريخ دون قدرة لهم على قول لا لمن لم يكن يسمع وقتها سوى صدى آرائه ولا يطرب سوى لمصفقيه ومنافقيه .. اليوم نفتح ملف جريدة الحرية ورحلة معاناتاها من عهد الإستعمار إلى عهد بن علي .. يرويها لنا إبنه الأستاذ محمد رشاد السماوي .. ولكن قبل الدخول في التفاصيل وجب علينا قبل كلّ شيء وخاصة للأجيال الحالية معرفة من هو المناضل والصحفي المرحوم محمد الطاهر السماوي
من هو المناضل الطاهر السماوي
هو من مواليد 20 جويلية من سنة 1919 بصفاقس، تمّ رفته من التعليم الابتدائي سنة 1932 لاعتدائه على مدير المدرسة الفرنسي بالضرب، واصل تعلّمه الابتدائي تحت اسم مدلّس بالمدرسة الابتدائية بتالة فوقع التفطّن إلى ذلك عندها أطرد ثانية من السنة النهائية ، إثر ذلك تحصل على الشهادة الابتدائية بتالة ثمّ زاول تعلّمه الثانوي إلى السنة الرابعة عندما أطرد بسب نشاطه ضد المستعمر ...دخل المدرسة الإيطالية و تحصل منها على ديبلوم في اللغة الإيطالية سنة 1936 و التحق فيما بعد بجامع الزيتونة ثم أطرد لأسباب سياسية، و التحق بالجامعة التونسية و تحصل فيها على الإجازة . دخل الفقيد الحركة الوطنية خلال فترة الثلاثينات مع الزعيم الهادي شاكر و الدكتور أحمد علولو وأسّس شعبة مركز علولو سنة 1942 إبّان دخول الألمان إلى تونس، سجن العديد من المرات و تعرض للنفي بشمال و جنوب تونس ،كثّف نشاطه السياسي عندما دخلت ألمانيا إلى تونس من سنة 1940 إلى 1943 ، و بعد انتصار الحلفاء اتهم من قبل السلطات الاستعمارية بالتآمر مع ألمانيا على فرنسا فحكم عليه بالإعدام لكنّه اختفى في الوطن القبلي إلى أن صدر العفو العام ، و في سنة 1958 سافر إلى مصر حيث استقبله الزعيم جمال عبد الناصر مع صالح بن يوسف ، فاعتقل عند رجوعه إلى تونس بالحدود الليبية التونسية و اتهمه الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة بالتآمر على قلب النظام و أمن الدولة لكن ما لبث أن أطلق سراحه ولقد كانت له خلافات مع بورقيبة . الطاهرالسماوي هو مؤسس جريدة الحرية إذ أصدر أول عدد يوم 28 جانفي من سنة 1948 بوسائله الخاصة و بداية من العدد الثامن أصبحت ناطقة باسم الديوان السياسي للحزب الحر الدستوري بموجب عقد بينه و بين المكتب السياسي وقّعه المناضل الراحل الهادي نويرة، و من أبرز أهداف الجريدة خدمة قضايا التحرّر و خدمة القضية الوطنية التونسية و العمل من أجل مصلحة القضايا العربية و الإسلامية و إنارة الرأي العام السياسي التونسي و إعلامه بكل ما يجدّ من أحداث على السّاحتين الوطنية و العربية و العالمية و طرح كل المسائل التي تخدم الشعب التونسي و الشعوب العربية و الإسلامية الشقيقة و التعليق عليها و تحليلها، وسنحاول أن نكشف اليوم رحلة معاناة هذا المناضل في فرض جريدته على أرض الواقع وعجزه عن ذلك من عهد الاستعمار إلى عهد بن علي، هذا وتجدر الاشارة الى أنّ المناضل الطاهر السماوي وافته المنية في 23 أكتوبر 2010 عن عمر يناهز الواحد والتسعين سنة وقد غادرنا في صمت إذ لم تتولّ أي جهة رسمية نعيه أو تأبينه وكأنّه من المواضيع الممنوعة المحجّر الحديث عنها .. وربما في تفاصيل تحقيقنا ما يفسّر كلّ ذلك
* كيف أوقفت في عهد الاستعمار
ٍقلنا إذن بأنّ جريدة الحرية إنطلقت سنة 1948 وقد قامت سلطات الإستعمار الفرنسي بإيقافها بسبب مقال صدر في العدد المؤرخ بـ11 مارس 1951 كان قد كتبه فريد بورقيبة وسخر فيه من الجيش الفرنسي مما اعتبرته السلطات الاستعمارية وقتها ثلبا وقذفا بحقها وأحيل بموجبها صاحب الجريدة وكاتب المقال على المحاكم الفرنسية المدنية منها والعسكرية في تونس والجزائر حُكم بمقتضاها بإيقاف الجريدة مع غرامة مالية بمليون فرنك وشهرين سجنا للمرحوم الطاهر السماوي وبنصف المدة ونصف الغرامة لكاتب المقال، لتتوقف الجريدة بعد أربع سنوات من الصدور وتجدر الاشارة الى انّه كان من بين كتابها العديد من الزعماء الدستوريين والنقابيين والمناضلين السياسيين أمثال الهادي نويرة وفرحات حشاد والمنجي سليم وعلي البلهوان ، وكان الاخير قد شغل بالصحيفة خطة رئيس تحرير بها مدة زمنية هامة.
* في عهد بورقيبة سحبت من الاسواق ومُنعت من عددها الأول
بعد دخول تونس مرحلة الاستقلال لم يتخلّ المرحوم الطاهر السماوي عن نضاله بالرغم ما تعرّض له من مضايقات مع فجر الاستقلال فقد كان الرجل محسوبا على التيار اليوسفي نسبة إلى صالح بن يوسف وقد تمّ إيقافه سنة 1958 من طرف السلطات الامنية التونسية بتهمة التآمر على أمن الدولة وقلب نظام الحكم على خلفية لقاءه في مصر بصالح بن يوسف وجمال عبد الناصر ، وخاصة أنّ المرحلة شهدت الصراع السياسي الكبير بين بورقيبة وما أُعتُبر صراعا مع الجناح اليوسفي ومن يدعمه، ومع هذا فقد قدّم المناضل الطاهر السماوي إلى السلطات التونسية سنة 1972 مطلبا بتجديد رخصة صحيفته وتمت الموافقة وقتها على إعادة إصدارها ، وبالفعل فقد تمّ سنة 1974 إصدار العدد الاول بعد الاستقلال ، ولكن سريعا ما تمّ سحبه من الأسواق والمطبعة التي أصدرته ، وقد تمّ إيقاف صاحب الجريدة من طرف ادارة الامن لأربع ساعات بعد حمله من منزله، وعن سبب الايقاف يقول محدثنا إبن المناضل الطاهر السماوي أنّ أباه قال له بأنّ المحققين الأمنيين اعلموه أنّ السبب كان بالأساس بسبب ما نشر في ذلك العدد من وعد القرّاء بنشر حقائق جديدة عن تاريخ الحركة الوطنية وزعمائها خاصة التي لم يتعرّض لها الحبيب بورقيبة في محاضراته بكلية الصحافة في بداية السبعينات والتي تكفل محمد الصياح وقتها بكتابتها على مقاس بورقيبة ومزاجه ويضيف رشاد السماوي بأنّ أباه كان قد تعرّض للتهديد بسبب مواقفه التي كان يريد نشرها ، وأنّه يجب ان ينسى مسألة الجريدة ونشرها مجددا وإلاّ فإنّ العقاب سيكون وخيما، وهكذا قُبرت الصحيفة ومنذ عددها الاول في عهد بورقيبة، وقُبر الحلم بالنسبة للمناضل الطاهر السماوي إلى ان أتى تحوّل السابع من نوفمبر الّذي ايقظ الحلم من سباته ولكن هيهات فلم يكن بالتغيّر وصاحبه أقلّ سوءا من الاستعمار والعهد البورقيبي في قمع الرأي الآخر واصحاب الحقوق ولئن تعرضت الصحيفة الى الايقاف في العهدين السابقين فقد تمت سرقتها في عهد بن علي والسطو عليها دون التجرؤ حتى على إستئذان صاحبها أو إحترامه كمؤسس لهذه الصحيفة منذ سنة 1948
حزب التجمع يسطو على الصحيفة والوالي يسأل صاحبها هل من افتكها لك عدوّ أو صديق؟
مع حدوث التغيير المعلوم في سبعة نوفمبر 1987 ظنّ المرحوم الطاهر السماوي كغيره من ملايين التونسيين أنّ عهد الحريات قد بدأ وأنّه باستطاعته منذ ذلك التاريخ العودة الى نضاله الفكري والثقافي والسياسي كما حلم به دائما ، ولذلك بدأ في التحضير لإعادة إطلاق صحيفته الحرية التي ظُلمت في عهد الإستعمار وعهد بورقيبة، ولكن ما حدث كان فوق طاقة التخيّل ليدرك بعدها بأنّ الرئيس الجديد ليس أكثر من رئيس عصابة بحزب لن يتردد في قيادة البلاد الى الجحيم لو ألزم لتحقيق مصالحه، ففي الوقت الّذي كان يعدّ فيه العدّة كما اسلفنا ليعيد صحيفته الى الوجود فوجئ بالحزب الحاكم وهو يغيّر إسم الصحيفة التي كانت لسان الحزب الحاكم وقتها وإسمها جريدة العمل ليصدرها بإسم الحرية دون الرجوع إلى صاحبها الّذي يملك رخصة إصدارها أو حتى إستئذانه والرجوع إليه، وامام هذا الموقف الغريب من الحزب الحاكم قام المناضل الطاهر السماوي بالتشكي لدى رئاسة الجمهورية على هذا التعدي اللاّقانوني واللاأخلاقي على صحيفة إرتبطت تاريخيا ووجدانيا بإسمه ويراها جزءا من كيانه كان يستعدّ لإحيائها فإذا به يُفاجؤ بسرقتها وممّن؟ من رجال قدّموا أنفسهم كحماة للوطن وللديمقراطية والرّاي الحر، لذلك لم يجد المرحوم الطاهر السماوي من حلّ سوى اللجوء إلى رئيس الجمورية وقد كان رئيس الحزب الحاكم أيضا وتقديم شكوى فيما تعرّض له من مظلمة سرقة جريدته آملا في إنصافه، فإذا به يُفاجأ بإستدعاء من فرقة الأبحاث والإرشاد التابعة للحرس الوطني بصفاقس بتاريخ 17 فيفري 1989 تمّ خلالها إستنطاقه لمدة ستة ساعات كاملة إنتهت بأمره بالكف عن الشغب والتشويش على الدولة، فما كان منه إلاّ أن أعاد مراسلة رئاسة الجمهورية مطالبا بأبسط الحقوق ألا وهي تسجيل إسمه كمؤسس لها على الجريدة بإعتباره أضعف الإيمان، فما كان من والي صفاقس وقتها محمد سعد إلاّ أن إستدعى صاحب الجريدة وخاطبه غاضبا ثائرا هل لك أن تجيبني إن كان من سطى على صحيفتك عدوّ أم صديق؟ عندها لم يضف المرحوم الطاهر السماوي عن الرد عليه قائلا "ليس لي ما أعلّق أو أضيف على سؤالك" وخرج بعدها من مكتب الوالي وهو في أقصى لحظات غضبه كما أكد لنا ابنه الذي كان ينتظره امام مبنى الولاية والذي إستغرب كيف أنّ لقاء ابيه بالوالي لم يدم أكثر من عشر دقائق ، ولكن متى فُهم السبب بطل العجب
*اليوم نطالب بإستعادة صحيفتنا وجبر كلّ الاضرار التي لحقتنا
في نهاية لقاءنا به أكّد لنا إبن المناضل والصحفي الطاهر السماوي أنّ مطالبه هو وإخوته هي بالأساس لإستعادة حق الملكية القانونية والأدبية للجريدة التي تمّ السطو عليها من بن علي جهارا نهارا ودون وجه حق، كما أعلمنا السيد محمد رشاد السماوي بأنه تمت مراسلة كل الجهات الرسمية للغرض ولم يتم الرد على مطالبهم الى اليوم وأنّهم يعتبرون أنّ ردّ الصحيفة إليهم هو حق لا يجب أن يتأخر وأن يتحمل كلّ طرف مسؤوليته القانونية في هذه المهزلة والمظلمة التي تعرّض لها والده والتي أجبر على الصمت عنها تحت التهديد وآن الأوان لتسترد الصحيفة وصاحبها كرامتهما كما ينبغي لها أن تكون في عصر نتمنى فعلا أن تعود فيه الحقوق لأصحابها وأن لا يقع الدوس عليها مرة أخرى تحت أيّ مسمّى قد يرفعه بعض من لازالوا بمنطق العصر السابق يحكمون.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire